أنواع الصدق
الصدق في
الإيمان
فقد أخرج مسلمٌ عن سفيان بن عبدالله
الثقفي - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل
عنه أحدًا بعدك - وفي حديث أبي أسامة: غيرك - قال: ((قل: آمنتُ بالله، فاستقم))
وفي رواية: ((قل: آمنتُ بالله، ثم استقم)).
قلتُ: والمتأمل في الحديث لمقصوده
صلى الله عليه وسلم عن الإيمان بالله تعالى يدرك أن صدقَ الإيمان بالله لا يكون
قولًا باللسان فقط، بل وباليقين بالقلب، وبرهان صدق يقينه استقامتُه على الطريق؛
أي: الالتزام بتعاليم الكتاب والسنة، أو - كما عرَّفه أهل العلم - سلوك الصراط
المستقيم، وهو الدين القيم، من غير ميل عنه يمنة ولا يسرة، ويشمل ذلك فعلَ الطاعات
كلها، الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات كلها، الظاهرة والباطنة
وفي فتوى للجنة الدائمة عن صحة
الإيمان وتعريفه قالت: "الصواب في ذلك قولُ أهل السنة والجماعة: أن الإيمان
قول باللسان، وعمل بالأركان، وتصديق بالجَنان، ولا يكتفى في ذلك بالنطق باللسان
إلا في إجراء أحكام الدنيا؛ مِن تغسيله إذا مات، وتكفينه، ودفنه في مقابر
المسلمين، ونحو ذلك من أحكام الدنيا إذا لم يعلم منه ما يقتضي كفره، وأما شهادة أن
لا إله إلا الله، فمعناها (لا معبود حق إلا الله)، ولا يكفي مجرد القول، بل لا بد
مِن الإيمان بالمعنى، والعمل بالمقتضى؛ كما قال الله سبحانه في سورة الحج: ﴿ ذَلِكَ
بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ
الْبَاطِلُ ﴾ [الحج: 62]، وقال سبحانه: ﴿ وَمَا
أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾
[البينة: 5]"؛ اهـ.
وجديرٌ بالأمة أن يكون هديُ نبيِّها
صلى الله عليه وسلم نبراسًا يضيء لهم طريقهم المليء بالشهوات المهلكة والفتن التي
تعصف بهم في بحر لجي لا شاطئ له، إلا مَن رحم ربي منهم، وهداه - بالعمل بهديِ نبيه
صلى الله عليه وسلم - إلى ما يحبه ويرضاه، ولم يجعل هواه يصدُّه عن الحق.
وبادئ ذي بدء نقول: الكثير منا يدعي
الإيمان بالله تعالى قولًا باللسان، ولا ترى في حياته التزامًا بكتاب أو سنة، وهما
الدليل والبرهان الساطع لاستقامته على طريق الرشاد حقًّا.
وإننا لا نشكُّ البتة أن المسلم منا
قد آمن بالله ربًّا، وبمحمد نبيًّا ورسولًا، وبالإسلام دِينًا.
ولا نشكُّ البتة - وحاشا لله - أنه
يؤمن بأن الله تعالى هو الربُّ الجليل، وهو العبد الذليل، وأن الله - جل في علاه -
الخالق الباري، المحيي المميت، الحي القيوم، السميع البصير، الواحد الأحد، الفرد
الصمد، له الأسماء الحسنى، وليس كمثله شيءٌ، ويؤمن بالكتب والرسل، والملائكة
والجنة والنار، والقدر خيره وشره، فكل هذا وغيره لا شك في إدراك المسلم له، وينطق
بها لسانه حقًّا، ولكن..
هل المسلمُ منا مؤمنٌ بالله تعالى بصدق؛
أي: عملًا بالجوارح والأركان، لا قولًا باللسان والكلمات فقط؟!
هل نحن مؤمنون حقًّا بالله تعالى ولا
نخاف ولا نخشى إلا إياه - جل في علاه؟
أو بعبارة أخرى أكثر بيانًا
وتوضيحًا: هل يستشعر المسلم منا عظمةَ الله في نفسه التي بين جنبَيْهِ ويستقيم على
طريق الحق؟
وهل يستشعر حقيقةَ عبوديته لله - جل
في علاه - في علاقته مع عباد الله؟
إن في هديِ نبينا صلى الله عليه وسلم
تطبيقًا عمليًّا لحقيقة الإيمان الصادق بالقول والعمل دون تعارض بينهما، وحقيقة
العبودية لله - جل في علاه - في أسمى صورها، وكما يحب ربُّنا ويرضى، فليتأمَّلِ
المسلم بعقله وقلبه ما نطرحه هنا من هدي نبينا في صدق الإيمان بالله تعالى، بالقول
باللسان، والعمل بالجوارح والأركان، ثم يجيب عن نفسه بكل صراحة ووضوح: هل يؤمن
بالله حقًّا وصدقًّا أو أنه قد حاد عن الطريق المستقيم؟
النبي يشهَد لجارية بالإيمان:
• في
حديث معاوية بن الحكم - رضي الله عنه - قال: وكانت لي جاريةٌ ترعى غنمًا لي قِبَل
أُحدٍ والجوَّانية، فاطلعتُ ذات يومٍ فإذا الذئب قد ذهب بشاةٍ من غنمها، وأنا رجلٌ
من بني آدم، آسَفُ كما يأسفون، لكني صككتها صكةً، فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فعظَّم ذلك عليَّ، قلت: يا رسول الله، أفلا أعتقها؟ قال: ((ائتني بها))،
فأتيته بها، فقال لها: ((أين الله؟)) قالت: في السماء، قال: ((مَن أنا؟))، قالت:
أنت رسول الله، قال: ((أعتقها؛ فإنها مؤمنةٌ))
ومما لا يغيب عن فِطنة المسلم اللبيب
أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك أنها مؤمنة حقًّا وصدقًا، وليس مجرد قول
باللسان، كما هو لسان حال أهل هذا الزمان، إلا مَن رحم ربي؛ لأنه صلى الله عليه
وسلم لا ينطق عن الهوى؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا
يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ
هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 3، 4].
قلتُ: وهذه الجارية في حديث معاوية
بن الحكم - رضي الله عنه - الذي ذكرناه آنفًا، لم تكن مؤمنة كرجال ونساء هذا
العصر، إلا مَن رحم ربي، فجميعًا نقول: "الله في السماء، ولا إله إلا الله
محمد رسول الله" جهارًا نهارًا، وغير ذلك مِن أركان الدين، قولًا باللسان دون
بينة على صحة هذه المقولة بالعمل بالكتاب والسنَّة، وهي تشبِهُ عينَ ما قاله
المرجئة قديمًا: إن الإيمان هو نطقُ اللسان بالتوحيد، مجردًا عن عقدِ قلب، وعملِ
جوارح.
ولكن - قطعًا - الإيمانُ الحقيقي
الصادق للجارية هو الذي جعل النبيَّ صلى الله عليه وسلم يشهد لها بالإيمان، كما لا
يخفى.
ومِن ثم يصح أن يقال: إن
مَن ينطق بلسانه بالتوحيد وغير ذلك مِن اعتقاد بالقلب بأركان الإيمان دون عمل
يدلُّ على صحة قوله - إيمانٌ غير صادق وغير مكتمل، ويُخشَى على صاحبه مِن سوء
الخاتمة، وينطبقُ عليه قولُ الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ
ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
يُحْسِنُونَ صُنْعًا *
أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ
أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ﴾
[الكهف: 104، 105].
يقول السعديُّ - رحمه الله - في
تفسيرها: "أي: قل يا محمد للناس - على وجه التحذير والإنذار -: هل أخبركم
بأخسرِ الناس أعمالًا على الإطلاق؟ ﴿ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [الكهف: 104]؛ أي: بطَل واضمحلَّ
كلُّ ما عمِلوه من عمل، يحسبون أنهم محسنون في صنعه، فكيف بأعمالهم التي يعلمون
أنها باطلة، وأنها محادَّة لله ورسله ومعاداة؟، فمَن هم هؤلاء الذين خسرت أعمالهم؛
فـ: ﴿ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾
[الزمر: 15]
﴿ أُولَئِكَ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ ﴾
[الكهف: 105]؛ أي: جحَدوا الآيات القرآنية، والآيات العيانية، الدالة على وجوب
الإيمان به، وملائكته، ورسلِه، وكتبه، واليوم الآخِر.
﴿ فَحَبِطَتْ ﴾
بسببِ ذلك ﴿ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ﴾ [الكهف: 105]؛ لأن الوزنَ فائدته
مقابلةُ الحسنات بالسيئات، والنظر في الراجح منها والمرجوح، وهؤلاء لا حسناتِ لهم؛
لعدم شرطِها، وهو الإيمان؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ
يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ﴾
[طه: 112]، لكن تُعَدُّ أعمالهم وتحصى، ويقرَّرون بها، ويُخْزَوْنَ بها على رؤوس
الأشهاد، ثم يعذَّبون عليها"؛ اهـ.
وأكرِّر قولي لخطورة وأهمية هذه
المسألة؛ ليهلِكَ مَن هلك عن بينة، ويحيا من حيَّ عن بينة، إن
المتأملَ في أقوال العلماء مِن أهل السنَّة والجماعة في هذه المسالة - أي حقيقة
الإيمان والصدق فيه - يجدها محلَّ إجماع؛ لكثرة الأدلة، ولقد سُئل العلامة
عبدالعزيز بن باز - رحمه الله -: هل يكفي المعتقدُ الصحيحُ عن العمل والاستقامةِ
على شرع الله؟
فأجاب بقوله: لا يكفي الإيمانُ
المعتقَد عن العمل، لا بد مِن العمل: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ ﴾ [لقمان: 8]، لا بد من العمل؛
يؤمِن بالله ورسوله، وتوحيد الله، ويعمَل؛ يؤدي فرائض الله، وينتهي عن محارم الله،
لا بد مِن هذا وهذا؛ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ ﴾
[لقمان: 8]، لا بد مِن الإيمان والعمل؛ اهـ.
صورٌ مِن صدق الإيمان ومِن هَدْيِ
الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم:
النبيُّ صلى الله عليه وسلم هو
الأسوة الحسنة لنا جميعًا؛ كما قال تعالى: ﴿ لَقَدْ
كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ
وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾
[الأحزاب: 21].
ولتصحيحِ مفهومنا عن الإيمان، نطرح
هنا هذه الأدلة الصحيحة مِن هَدْيِ النبي صلى الله عليه وسلم لنتأمَّلَها ونتعظَ
بها؛ لندركَ حقيقة الإيمان الصادق في كل أعمالنا دينًا ودنيَا، والله
المستعان.
1- مِن صور صدق الإيمان: قيام
الليل:
كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم
يتعبَّد لله تعالى، ويقوم الليل، ويُطيل القيام حتى انتفخت قدماه؛ كما في
الصحيحينِ مِن حديث المغيرةِ بن شعبة: "أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم صلَّى
حتى انتفخت قدماه، فقيل له: أَتَكَلَّفُ هذا وقد غفَر اللهُ لك ما تقدم من ذنبك
وما تأخر؟! فقال: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا)).
تطبيق الشريعة الربانية وحدود الله تعالى،
ولو كان على أحب الناس إليك وأقربهم إلى قلبك دون تردُّد ولا اعتراض بحجة اختلاف
العصر، ووجود حدود زاجرة أرحم بالإنسان وآدميته؛ كالحبس في السجون أو ما أشبه -
دليلٌ على قوة إيمانك، وصدق محبَّتِك لله تعالى ورسوله؛ ولهذا عندما أراد أسامةُ
بن زيد - رضي الله عنه - أن يشفَعَ للمرأة المخزومية التي سرَقَتْ، ردَّه رسولُ
الله صلى الله عليه وسلم بلا تردُّد، وهو الحِبُّ ابنُ الحِبِّ، وقال له:
((أتشفَعُ في حدٍّ مِن حدود الله؟!))، ثم قام فاختطب، ثم قال: ((إنما أهلَك الذين
قبلكم أنهم كانوا إذا سرَق فيهم الشريفُ ترَكوه، وإذا سرق فيهم الضعيفُ أقاموا
عليه الحدَّ، وايم الله، لو أن فاطمةَ بنتَ محمدٍ سرقَتْ، لقطعتُ يدَها)
الصدق في العمل
عندما نعمل ونؤدي خدمة ما فعلينا ا ن نتقن عملنا ، ونؤديه على
الوجه الامثل مادامت هناك اجور تعطى لنا مقابل اعمالنا وخدماتنا هذه ، فهذه الاجور
يجب ان نأكلها حلالا طيبا ، لا من جراء الغش والاهمال والتقاعس وتضييع الوقت ، فكل
اهمال او غش انما هو ثغرة تفتح في جدار كياننا ، وبازدياد هذه الثغرات ، فان هذا
الجدار سوف يتهدم لا محالة ، وبالتالي ينهار البناء كله لا سمح الله .
ان مثل الاتقان والاخلاص والجد والمثابرة في اداء واجباتنا
واعمالنا كمثل الاجر الذي يشكل البناء ، فانعدام اية اجرة سيؤدي بالتأكيد الى
انهيار هذا البناء .
فتعالوا نبدأ من جديد حياة جديدة تتسم بالوضوح والصدق
والاخلاص والتفاني ، تعالوا لنعيش النصح بيننا ، وان يكون احدنا مرٍآة للاخر ، وعندها
ستكون امتنا عزيزة شامخة في دنياها ، وبضمان ذلك نكون قد ضمنا الاخرة والسعادة في
الدارين ، فانتهاجنا للكذب والنفاق والدجل والتبرير لا ينفعنا في شيء ، فأين مفرنا
من الله القهار الجبار الذي يقول وهو اصدق القائلين :
" فاذا برق البصر ، وخسف القمر ، وجمع الشمس والقمر ،
يقول الانسان يومئذ اين المفر ، كلا لا وزر ، الى ربك يومئذ المستقر ، ينبؤ
الانسان يؤمئذ بما قدم واخر
